على مدار العقدين الماضيين، شهدت المنظومة الانتخابية في المغرب تحولات مستمرة على الصعيدين القانوني والتنظيمي، من قوانين تنظيم قواعد الأحزاب السياسية إلى نصوص انتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية، والقوانين المنظمة للوائح الانتخابية العامة إلى مدونة الانتخابات، مرورا بمراسيم وقرارات تحدد قواعد اللعبة السياسية، شكّلت هذه الإصلاحات سلسلة من التعديلات التي تعكس، وفق مهتمين، سعي البلاد الدائم لملاءمة القانون مع روح المشاركة الديمقراطية المتجددة.
واعتبر أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أمين السعيد، أن إصلاح المادة الانتخابية أصبح ظاهرة متكررة تطبع جميع المحطات الانتخابية، وهو ما يؤثر على الأمن القانوني للنصوص الانتخابية، مبرزا أن الدعوة الملكية بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش تمثل منطلقا لفتح نقاش مفتوح حول إصلاح المنظومة الانتخابية، بما يتيح مدة زمنية كافية بعيدا عن ضغط الحملة الانتخابية، وذلك لإجراء مشاورات جادة ومسؤولة.
وأضاف أمين السعيد في تصريح لـ”سفيركم”، أن الخاصية المميزة لإصلاح القوانين الانتخابية في المغرب تكمن في منهجية التوافق الوطني بين الأحزاب السياسية، والتي تهدف إلى تحقيق الحد الأدنى من المطالب المعبر عنها، رغم التناقضات الطبيعية بين تصورات الأحزاب السياسية المختلفة، مشيرًا إلى أن مطالب أحزاب الأغلبية تختلف أحيانًا عن تلك المطروحة من طرف المعارضة، وأن الأحزاب غير الممثلة في البرلمان تختلف مطالبها عن الأحزاب الممثلة، ومن هنا تأتي أهمية منهجية التوافق الوطني التي تضمن إدماج وجهات النظر المتناقضة في صلب المادة الانتخابية.
وفي سياق متصل، لفت السعيد إلى أن المشهد الانتخابي شهد تحولات عميقة في الممارسة الانتخابية التي باتت تخترق مفهوم ودلالة ومعنى دوائر “الموت”، التي رسمتها الأدبيات الصحفية في سياق الدوائر الانتخابية التي كان يتبارى فيها زعماء الأحزاب السياسية، ووزراء وقيادات لها رمزية سياسية وتاريخية ونضالية، خاصة تلك التي كانت تنتمي للأحزاب الوطنية.
وأوضح أمين السعيد أن الانتخابات التي أجريت في الثمانينات ونهاية التسعينات قدمت تعريفًا لدوائر “الموت” المتسمة بخصوصية وفرادة وقوة المترشحين، إلا أن التقطيع الانتخابي الذي اعتمد سنة 2002 بالاقتراع باللائحة أنتج دوائر تختلف بمعاييرها عن الماضي، إذ أصبحت تتسم بتعقد الجماعات التي تتألف منها وتشعب مساحتها ونموها الديمغرافي الكبير، وليس بمستوى المترشحين.
وأكد أمين السعيد أن تحصين العملية الانتخابية من المال، وتشجيع المشاركة، وتحفيز النساء والشباب والكفاءات على ولوج السياسة، لن يكون ممكنًا دون تعديل التقطيع الانتخابي، لا سيما في الدوائر المحلية الكبرى التي تضم عددا كبيرا من الجماعات، مستشهدا بعدد من الدوائر الانتخابية، مثل الصويرة (57 جماعة، 4 مقاعد)، سطات (46 جماعة، 6 مقاعد)، الحوز (39 جماعة، 4 مقاعد)، الرشيدية (29 جماعة، 5 مقاعد)، وغيرها.
وأكد السعيد أن المشرع انتبه لهذه التحديات، فقسم بعض الأقاليم الكبرى إلى دوائر محلية، مثل تارودانت (89 جماعة مقسمة إلى دائرتين) وأزيلال (44 جماعة مقسمة إلى دائرتين)، والخميسات (35 جماعة مقسمة إلى دائرتين)، وتاونات (49 جماعة مقسمة إلى دائرتين)، وهو ما ساهم في توفير شروط العدالة الانتخابية والتمثيلية المتوازنة وتقليل التفاوتات الصارخة داخل الدوائر المحلية الكبرى.
وفي الآن ذاته، نبه أمين السعيد إلى أن فتح النقاش حول إعادة النظر في تقسيم الدوائر لا يهدف إلى إضعاف “الكائنات الانتخابية”، بل إلى بناء رؤية جدية تشجع انخراط الأحزاب وشبيباتها ومنظماتها النسائية في نقاش عمومي مسؤول، وتقريب وجهات النظر حول إعادة النظر في الدوائر “الملغومة”، والتي تسهل فيها ممارسة المال السياسي ويصعب مراقبتها نظراً لشساعتها وتعقدها، موضحا أن هذه الإجراءات تهدف إلى تمكين الأحزاب من تقديم برامج حقيقية، وتعزيز المشاركة السياسية في مجتمع يعاني من العزوف وفقدان الثقة في السياسة.
وتجدر الإشارة إلى أن النقاش الدائر حول إصلاح المنظومة الانتخابية دفع مختلف التنظيمات السياسية إلى تقديم تصوراتها ومذكراتها التحضيرية قبيل الاستحقاقات المقبلة، فقد اعتمدت فدرالية اليسار الديمقراطي على إشراك المواطنين عبر منصة رقمية جمعت أكثر من 600 مقترح يهم النزاهة وتحديث القوائم وتشجيع المشاركة، بينما ركّزت الحركة الشعبية على تحفيز النساء والشباب مع إصلاح التمويل وضمان تكافؤ الفرص في الإعلام.
وشدد حزب التقدم والاشتراكية على إشراف مشترك يضمن المصداقية وإقصاء الفاسدين، في حين قدّم العدالة والتنمية مذكرة تدعو إلى ميثاق شرف مزدوج ومراجعة التقطيع وتعزيز الشفافية، لتقترح الأصالة والمعاصرة بدورها حذف العتبة الانتخابية وتعديل شروط الترشح وتوزيع الدعم المالي على أسس جديدة.
وبالرغم من اختلاف التفاصيل، فإن جلّ الأحزاب تلتقي عند مطالب عامة تشمل: تعزيز تمثيلية النساء والشباب، مكافحة المال الانتخابي، إصلاح التقطيع واللوائح، اعتماد البطاقة الوطنية للتصويت، وتوسيع الرقمنة، وهي أرضية إصلاحية مشتركة، من شأنها، إذا ما فُعّلت، أن تجعل انتخابات 2026 محطة نوعية لاستعادة ثقة الناخبين وترسيخ مسار الديمقراطية التشاركية في المغرب.
ياسمين اشريف