مصطفى براهمة.. المهندس الذي أشرف على بناء حي مولاي رشيد واعتقل قبل تدشينه من طرف الحسن الثاني

marocain
4 Min Read

عمر لبشيريت

كان مصطفى البراهمة يبني في العلن ما يُطلب منه، ويشيّد في الخفاء ما يؤمن به. في النهار، مهندس معماري يشرف على بناء الدور السكنية لفائدة ساكنة كاريان بن مسيك بالدار البيضاء. وفي الليل، مناضل ماركسي يخطّط لبناء التنظيم السري لمنظمة “إلى الأمام”.

بين الهندسة والنضال، ظلّ البراهمة يرسم خطوطًا متوازية لا تلتقي إلا عند الإيمان العميق بالعدالة والكرامة.

وُلد البراهمة ليكون مهندسًا، لكنه اختار أيضًا أن يكون مناضلًا. بعد تخرجه من المدرسة المحمدية للمهندسين سنة 1980، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، كان قد سبقه شغف آخر: هندسة الإنسان والمجتمع.

فمنذ التحاقه بالنقابة الوطنية للتلاميذ سنة 1972، وهو يسير بخطى ثابتة في طريق النضال ضد الحكم المطلق، إلى أن وجد نفسه عضوًا في منظمة “إلى الأمام” الماركسية وطالبًا نشيطًا داخل الجامعة المغربية، يشارك في بناء التنظيم الطلابي القاعدي للمنظمة الماركسية السرية.

ازدواجية البناء — بين الورش والمعمل، وبين الفكرة والموقف — شكّلت عنوان مسيرته. في قاعات الدراسة بالمدرسة الوطنية للمهندسين، كان يبني لجان الطلبة الديمقراطيين، ويطالب برفع الحظر عن “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب”، ويساهم في تأسيس تيار الطلبة القاعديين. أما في الخارج، فكان يرسم على الورق تصاميم لبناياتٍ آمنةٍ وسكنٍ كريم.

اعتُقل البراهمة لأول مرة سنة 1976 بتهمة الانتماء إلى منظمة “إلى الأمام” والمسّ بأمن الدولة الداخلي. قضى سنة في الاعتقال قبل أن يُفرج عنه دون متابعة. خرج أكثر صلابة وإيمانًا بخياره، فعاد إلى دراسته ونضاله، متيقنًا أن الحرية تُبنى كما تُبنى المدن، حجراً فوق حجر.

مع بداية الثمانينيات، كانت البلاد تغلي بعد أحداث إضراب 20 يونيو 1981، والتحق البراهمة بوزارة السكنى والتعمير كمهندس معماري. غير أن الوظيفة لم تُغره، فظل صوته الداخلي يذكّره بأن البناء الحقيقي هو بناء الوعي والتنظيم.في السرّ، شارك في إعادة هيكلة منظمة “إلى الأمام”، وانتُخب ضمن الكتابة الوطنية مكلفًا بالتنظيم.
في العلن، كان المهندس الشاب يُشرف على مشاريع عمرانية كبرى، أبرزها مشروع حي مولاي رشيد الذي خُصّص لإعادة إيواء سكان كاريان بن مسيك.

المفارقة بلغت ذروتها: المهندس الذي يشارك في الاجتماعات الأمنية، بحكم عمله، للتحضير لتدشين الحي من طرف الملك الحسن الثاني، هو نفسه الذي كان يطبع ويوزع مناشير “انتفاضة يناير 1984”.
كان وجهًا مألوفًا لدى رجال السلطة، وسط أوراش البناء بالحي الشعبي الجديد، دون أن يعرفوا أنه يبيت مناضلًا سرّيًا بينهم.

في شتنبر 1985، تقدّم ضباط المخابرات إلى مكتبه بورش العمل وطلبوا منه مرافقتهم إلى “اجتماع هام”. كان يدري أنها بداية الاعتقال الطويل. في معتقل درب مولاي الشريف، ذاق البراهمة أقسى صنوف التعذيب، قبل أن يُحكم عليه بعشرين سنة سجناً.
لكنه، كما في الهندسة، كان الإصرار جزءًا من شخصيته: كل سقوط هو فرصة لإعادة البناء من جديد.

بعد الإفراج عنه بعفو ملكي سنة 1994، عاد إلى العمل في وزارة السكنى، وإلى النضال العلني هذه المرة. قاد جهود تأسيس حزب النهج الديمقراطي، وتولى مهمة الكاتب الوطني سنة 2012، مجسدًا فكرة الانتقال من السرية إلى العلن، ومن الحلم إلى الفعل.

ظل مصطفى البراهمة مهندسًا في كل ما فعل: يبني بالأفكار كما بالبُنى، ويضع الأساس لحزب، كما يضعه لبيت. شغل منصب مفتش بوزارة السكنى في الدار البيضاء وأكادير، قبل أن يتقاعد، دون أن يتقاعد ضميره أو حلمه بمغربٍ عادل تسوده الكرامة والحرية والديمقراطية.

في يوم الاثنين 13 أكتوبر، غادرنا الرجل الذي ظلّ وفيًا لفكرته حتى النهاية.
رحم الله مصطفى البراهمة، المهندس الذي بنى بالحجر… وبالأمل.

Share This Article