تحولت شوارع مدن مغربية مساء يومي السبت والأحد إلى مسارح للتوتر، حيث تداخلت صرخات المحتجين مع صفوف الأمن المتفرقة، وجاءت هذه التحركات استجابة لدعوات عبر منصات التواصل الاجتماعي، تطالب بشكل سلمي، بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ليجد الشباب أنفسهم في مواجهة مباشرة مع السلطات، ويفتح باب النقاش حول التدخلات الأمنية في المغرب، حيث تتقاطع فيها المرجعيات الدستورية والقانونية مع واقع الممارسة الميدانية، مما يلح بالتساؤل: هل حافظت هذه التدخلات على مقاييس التناسبية والضرورة، أم أنها تجاوزت الحدود التي يقرها القانون والدستور؟
الحبيب استاتي زين الدين، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية في جامعة القاضي عياض، قال إن الدستور المغربي لسنة 2011 يقر بوضوح في فصله 29 حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وينص على أن تقييد هذه الحقوق لا يتم إلا بمقتضى القانون، وبما يحفظ النظام العام، أما ظهير 1958 المنظم للتجمعات العمومية، فقد وضع الإطار الإجرائي لهذه الحريات، محددا بدقة الشروط التي تسمح للسلطات بالتدخل، غير أن الوقائع الأخيرة أثارت نقاشا حول مدى التزام التدخلات الأمنية بمبدأ التناسبية والضرورة، وهو الأساس الذي يجعل استخدام القوة مشروعا فقط في أضيق الحدود ووفق أهداف واضحة.
وأضاف استاتي زين الدين، في حديث مع “سفيركم”، أن هذا النقاش ليس خاصا بالمغرب، بل هو قائم حتى في أعرق الديمقراطيات، ففي فرنسا مع احتجاجات “السترات الصفراء”، أو في الولايات المتحدة خلال مظاهرات “حياة السود مهمة”، عرفت التدخلات الأمنية قوة واضحة، رغم رسوخ تقاليد هذه الدول في مجال الحقوق والحريات.
غير أن ما يميز هذه التجارب، يفسر أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية، هو وجود مؤسسات قضائية وإعلامية ورقابية قوية تمارس دورها في التحقيق والمساءلة بشكل متقدم، وفي المغرب أيضا، هناك مؤسسات قائمة في هذا الاتجاه، مثل القضاء، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهيئات الحكامة والرقابة الدستورية، غير أن التحدي يكمن في تعزيز فعاليتها وترسيخ استقلاليتها حتى تصبح قادرة على التدخل بالصرامة والسرعة اللازمتين عند وقوع تجاوزات.
وفي هذا الاتجاه، أوضح استاتي زين الدين أن التجربة المغربية راكمت مكتسبات مهمة في هذا المجال، لكن الحاجة لا تزال قائمة إلى مزيد من التمكين المؤسسي والعملي، لضمان أن تكون هذه الآليات قادرة على إعادة التوازن بين مقتضيات الأمن واحترام الحقوق، على نحو يبعث الثقة لدى المواطنين.
ففي السياق الداخلي، قال المتحدث نفسه، إنه لا يمكن إغفال ما راكمته الإدارة الأمنية من مكتسبات في تعاملها مع الاحتجاجات، إذ أبانت في محطات عديدة عن مستوى متنام من المهنية واحترام مقتضيات حقوق الإنسان، وهو ما يعكس استيعابا تدريجيا للمفهوم الجديد للسلطة الذي دعا الملك محمد السادس إلى تبنيه، والقائم على تقريب الإدارة من المواطن، والإصغاء إلى مطالبه، وجعل السلطة أداة للتأطير والحوار قبل أن تكون أداة للزجر، غير أن هذه المكتسبات، تبقى “نسبية”، ما دام النقاش العمومي ما يزال يتجدد حول مظاهر التدخل الأمني عند كل موجة احتجاج.
إلى جانب ذلك، اعتبر المتحدث أن عمق الأزمة التي دفعت الشباب إلى التظاهر يتجاوز مسألة التدخل الأمني في حد ذاته، ليكشف خللا بنيويا في تدبير السياسات العمومية، فقد ظل قطاع الصحة مثلا يعاني من “سوء تدبير مزمن حيث لا تتناسب جودة الخدمات مع الإمكانات المرصودة”، فالمواطنون يواجهون معاناة يومية في الولوج إلى العلاج، سواء بسبب ضعف البنية التحتية أو قلة الموارد البشرية أو غياب حكامة رشيدة.
أما التعليم، يضيف استاتي زين الدين، “فقد أُُنهك بسلسلة من الإصلاحات المتعاقبة التي لم تترجم إلى نتائج ملموسة، حتى فقد الإصلاح معناه وأضحى مرادفا للتجريب المستمر دون أثر حقيقي في تحسين جودة التعلمات أو تعزيز العدالة التعليمية”، وأوضح أن هذه الاختلالات “تضعف الثقة في الدولة وتمنح الاحتجاجات مشروعيتها، لأنها تعبّر عن تراكم خيبات اجتماعية واقتصادية لا يمكن معالجتها بالمقاربة الأمنية وحدها”.
وعلى الصعيد الدولي، أبرز الأستاذ الجامعي أن المغرب يظل ملزما بمرجعيات أساسية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ومدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين التي أقرتها الأمم المتحدة سنة 1979، والتي تؤكد على احترام الكرامة الإنسانية، وتقييد استخدام القوة بالضرورة والشرعية، وأن إدماج هذه المعايير في التكوين الأمني، والانفتاح على الخبرة الأممية، يشكل ضمانة لعدم الانزلاق إلى ممارسات تضعف شرعية الدولة.
لكن الأساس الأعمق، وفق استاتي زين الدين، هو أن الشباب المغربي الذي يقود هذه الاحتجاجات يمثل قوة وطنية يجب الإصغاء إليها، باعتبارها تعبيرا عن وعي سياسي جديد يرفض اختزال الديمقراطية في بعدها الإجرائي، ويؤمن بأن الاختلاف جزء من صميم الحياة السياسية.
لذلك، فإن النجاح، يضيف المتحدث، “لا يقاس فقط بمدى التحكم في الشارع أو ضبط النظام، بل بقدرة الدولة على تحويل المطالب المشروعة إلى سياسات عمومية فعالة، وعلى إعادة بناء الثقة مع مواطنيها من خلال الاعتراف بالمحدودية وتصحيح مسارات التدبير العمومي في الصحة والتعليم وغيرهما، فالتعاقد الدستوري الذي يشكل أساس العلاقة بين الدولة والمجتمع لا يكتمل إلا إذا اقترن باستجابة واقعية لانتظارات الناس، لا بمجرد إدارة أمنية للاحتجاجات”.